{الجريمَةُ الظَنِّيَةُ}
الجريمَةُ الظَنِّيَةُ هي جريمةٌ ليس لها وجودٌ ماديٌ في عَالَمِ الواقِعِ وإنما هي وليدَةُ التَصَوُّرِ وبِنْتُ الخيالِ المَحْضِ للفاعِلِ، أيْ أنَّ الفاعلَ يتخَيَّلُ فيها أنَّهُ مُدَانٌ مع أنَّ الواقِعَ يُبَرِّئُهُ ومن ثمَّ يَستَحيلُ قانوناً أنْ تكونَ الجريمةُ الظَنِّيَةُ مصدَراً للمسؤوليَّةِ الجزائيَّةِ؛ لأنَّهُ لا مسؤوليَّةَ في القانونِ الجزائيِّ حيثُ لا جريمةَ في الواقعِ ويُؤيِّدُ هذا النظَرَ ما أفادنا به العلَّامةُ الدكتور رمسيس بهنام أستاذُ القانونِ الجنائيِّ في جامعة الاسكندريَّةِ فقد قال ما يلي:
{لا يُتصَوَّرُ أنْ تتوافَرَ في الجريمةِ الظنِّيَةِ جريمةٌ فِعلِيَّةٌ، إذ لا تُوجَدُ في قانونِ العقوباتِ جريمةٌ تَستَمِدُّ وجُودَها مِن مَحضِ ظنٍ قامَ في ذِهنِ الفاعلِ، فالجريمةُ من الناحيَةِ القانونيَّةِ لا توجَدُ ظنَّاً حيثُ لا يكونُ لها وجودٌ فِعلاً، ومتى قرَّرَ القانونُ أنَّ الجزاءَ الجنائيَّ غيرُ مُستَحَقٍ فلا محَلَّ لتوقيعِهِ أخذاً بنِيَّةٍ سيِّئَةٍ لدَى الفاعلِ، فلا عِقابَ على مُجرَّدِ النِيَّاتِ}.
ومَنشَأُ الجريمةِ الظَنِّيَةِ يَرجِعُ إلى جَهلِ الفاعلِ بإحدى ثلاثٍ:1)-إمَّا أنَّ الفاعلَ يَجهَلُ أنَّ الفِعلَ الذي ارتكبَهُ مُباحٌ قانوناً ويَعتقِدُ عن خطأ منهُ أنَّ الفِعلَ المَذكورَ مُؤثَّمٌ ويُعاقِبُ عليهِ القانونُ ويُؤيِّدُ هذا النظَرَ أفادنا به العلَّامةُ الدكتور محمود نجيب حسني رئيسُ جامعةِ القاهرةِ سابقاً فقد قال ما يلي:
{الجريمةُ الظَنِّيَةُ أو الوَهمِيَةُ هي فِعلٌ لا يُجَرِّمُهُ القانونُ، ولكنِ اعتقَدَ مُرتَكِبُهُ تجريمَ القانونِ له، مثالُ ذلك: شخصٌ يُقرِضُ بفوائدٍ يَسمَحُ بها القانونُ مُعتَقِداً أنَّ الشارِعَ يُحَظِّرُ كُلَّ فائدةٍ، وشخصٌ يُعطي كِمبيالَةً بغيرِ مُقابِلِ وفاءٍ مُعتَقِداً أنَّ القانونَ يُجَرِّمُ ذلك، وحُكمُ الجريمَةِ الظَنِّيَةِ ألَّا عِقابَ يُوقَعُ من أجلِها؛ إذ لا عِقابَ من أَجْلِ فِعلٍ لم يُجَرِّمْهُ القانونُ، والمَرجِعُ في التجريم والعِقابِ إلى نصوص القانونِ لا إلى اعتقادِ منِ ارتَكَبَ الفِعلَ إذ لا يستَطيعُ بِظَنِّهِ أنْ يُغيِّرَ حُكمَ القانونِ في فِعلِهِ وأنْ يُحِيلَهُ من فِعلٍ مشروعٍ إلى فِعلٍ غيرِ مشروعٍ، فالمشروعيَةُ وانعدامُهَا فِكرتانِ موضوعيتانِ تعتَمِدانِ على نصوصِ القانونِ وِفْقَ ما يَستقِرُّ لها من تفسيرٍ صحيحٍ ولا تَرْتَهِنانِ البتَّةَ بظَنِّ من يَرتَكِبُ الفِعلَ وقد أكَّدَ الشارِعُ هذه الحقيقةَ في نَصِّهِ على أنَّهُ (لا يُعَاقَبُ منِ ارتَكَبَ فِعلاً وظَنَّ خطأً أنَّه يكون جريمةً) [المادة /203/ من قانون العقوبات -اللبناني-]}.
وهذه المادةُ مُطابِقَةٌ للمادة/202 الفقرة 3/ من قانون العقوبات السوري.2)-أو أنَّ الفاعلَ يَجهَلُ وجودَ سبَبِ إباحَةٍ يُبَرِّرُ الفِعلَ الذي ارتكَبَهُ ويُؤيِّدُ هذا النظَرَ ما أفادنا به العلَّامةُ الدكتور محمد زكي أبو عامر عميدُ كُلِّيَةِ الحقوق في جامعة الاسكندرية سابقاً فقد قال ما يلي:
{يُقصَدُ بالجَهلِ بالإباحَةِ أنْ يتوفَّرَ في دُنيا الواقعِ حقيقةً وفِعلاً سبَبٌ من أسباب إباحَةِ الفِعلِ، لكنَّ الفاعِلَ لسببٍ أو لآخرٍ لا يَعلَمُ به، فَيَصدُرُ عنه الفِعلُ وهو مُعتَقِدٌ عدمَ مشروعيَتِهِ وتشكيلِهِ لجريمةٍ، بينما يَتضِحُ أنَّ هذا الفِعلَ كان هو ذاتُهُ في واقِعَةِ الحالِ مُباحَاً لتوفُّرِ سببٍ من أسبابِ إباحَتِهِ في الحقيقَةِ والواقعِ دون أنْ يَعلمَهُ الجاني، ولهذا السببِ سُمِّيَ ذلك الجَهلُ (بالجريمَةِ الظَنِّيَةِ) أيْ الجريمة التي لا تقوم إلا في ظَنِّ الفاعلِ، ومِثلُهُ أنْ يُطلِقَ شخصٌ على عدوهِ الذي صادَفَهُ واقِفاً في الطريقِ رصاصةً من بُعد بقَصدِ قَتْلِهِ، ثم يتَضِحُ أنَّ هذا العدوَ في اللحظَةِ ذاتِها التي أُطلِقَ العِيارُ عليه كان يَهِمُّ بإطلاقِ الرصاصِ على الفاعلِ بِقَصدِ قَتلِهِ، أو من يَقبِضُ على شخصٍ مُتَلَبِّسٍ بجريمةٍ وهو لا يدري أنَّه في حالَةِ تَلَبُّسٍ.
والذي عليه الفِقهُ والتشريعاتُ المُقارنةُ أنَّ أسبابَ الإباحَةِ أسبابٌ موضوعيَةٌ تُحدِثُ أثرَها من حيث تعطيلِ نصوصِ التجريمِ وانتفاءِ المسؤوليَةِ مادامتْ قد توفَّرَتْ في دُنيا الواقع بصَرفِ النظَرِ عن اعتقادِ مُرتَكِبِ الأمرِ، وهي قاعِدَةٌ عامةٌ لا تحتاجُ إلى نصٍ يُقَرِرُها}.3)-ذهبَ اتجاهٌ في الفِقهِ إلى أنَّ الجريمةَ الظَنِّيَةَ تنشأ أيضاً مِن جَهلِ الفاعلِ بأنَّ جريمَتَهُ مستحيلةٌ استحالةً مُطلقَةً واعتقادِهِ بأنَّهُ قدِ ارتَكبَها على النحوِ الذي يُعاقِبُ عليهِ القانونُ، وتكونُ الاستحالةُ مُطلقَةً في إحدى حالتين:
ج2:
أ-إمَّا إذا انعدَمَ وجودُ الحقِّ موضوعِ الجريمةِ كمَن يُريدُ قتلَ إنسانٍ ثمَّ يتبيَّنَ للفاعل أنَّ المُجنَى عليه مَيِّتٌ قبلَ ارتكابِ الجريمةِ، فهنا تكونُ جريمةُ القتلِ مستحيلةً استحالةً مُطلقَةً؛ لأنَّ موضوعَ جريمةِ القَتلِ إنسانُ حيٌ.
ب-أو إذا كانتِ الوسيلةُ المُستعملَةُ في ارتكابِ الجريمةِ لا تَصلُحُ مُطلقَاً لإحداثِ النتيجةِ، كأنْ يَستعمِلَ الفاعلُ للقَتلِ سِلاحاً ليس فيه طَلقاتٌ أو مادةً غيرَ سامَّةٍ.
وفي كِلتا حالتي الاستحالةِ المُطلقَةِ لا يكونُ للجريمةِ وجودٌ سوى في ذِهنِ فاعِلِها ومن ثمَّ فإنَّها تُعَدُّ جريمةً ظَنِّيَةً طِبقاً للاتجاهِ المَذكورِ آنِفاً ويُؤيِّدُ هذا الاتجاهَ الفقيهُ الدكتور معن أحمد محمد الحياري فقد قال ما يلي:
{لا يكفي بأيِّ حالٍ من الأحوالِ لقيامِ الشُروعِ أيُّ سلوكٍ يَكشِفُ القَصدَ الجُرمِيَّ، وإنَّما يجبُ أنْ يكونَ السُلوكُ يتطابَقُ مع النموذجِ القانونيِّ لجريمةِ الشُروعِ.
ونحنُ في هذا المَجالِ مع التمييزِ ما بين الاستحالةِ المُطلقَةِ والاستحالةِ النِسبيَّةِ، ففي حالةِ الاستحالةِ المُطلقَةِ فإنَّ السُلوكَ الإجراميَّ لا يَتطابَقُ مع النموذجِ القانونيِّ المَرسومِ لهذا السلوكِ، وإنَّ تجريمَ هذا السُلوكِ يُخالِفُ النَموذجَ القانونيَّ المُقرَّرَ، أمَّا تَوهُّمُ الجاني لقيامِ هذا التطابُقِ مع النموذجِ المُعَدِّ هو ضربٌ من ضروبِ الخيالِ وبالتالي فالجريمةُ هنا جريمةٌ ظَنِّيَةٌ لا وجودَ لها إلا في خيالِ الفاعلِ}.
وهذا الاتجاهُ لا يَستقيمُ في التشريعِ السوريِّ بينما يُعَدُّ صحيحاً في القضاءِ المصريِّ، فالجريمةُ المُستحيلةُ استحالةً مُطلقَةً لا يُمكِنُ أنْ تكونَ جريمةً ظَنِّيَةً في التشريعِ السوريِّ لأنَّ الجريمةَ الظَنِّيَةَ لا عِقابَ عليها كما ذكرنا آنِفاً، في حين أنَّ التشريعَ السوريَّ يُعاقِبُ على بعضِ صورِ الجريمةِ المُستحيلةِ استحالةً مُطلقَةً وذلك استناداً إلى المادة/202 الفقرة 1/ من قانون العقوباتِ السوريِّ التي تَنُّصُّ على ما يلي:
(يُعاقَبُ على الشُروعِ وإنْ لم يكن في الإمكانِ بُلوغُ الهدفِ بسبب ظرفٍ ماديٍ يَجهَلُهُ الفاعلُ).
وفي ذلك يقولُ الدكتور معن أحمد محمد الحياري:
{الاتجاهُ الذي ذهبَ إليه قانونا العقوباتِ اللبنانيُّ والسوريُّ هو اتجاهٌ سائدٌ في الاستحالةِ وهو الأخذُ بالمَذهبِ الشخصيِّ والعِقابُ على الجرائمِ المُستحيلةِ أيَّاً كانت أسبابُ الاستحالةِ أو نوعُها}.
أمَّا القضاءُ المَصريُّ فقد تبنَّى التفرِقَةَ بين الاستحالةِ المُطلقَةِ التي لا عِقابَ عليها والاستحالةِ النِسبيَّةِ التي يُعاقَبُ عليها كشروعٍ في الجريمةِ، ومن ثمَّ فإنَّ جهلَ الفاعلِ بأنَّ الجريمةَ التي ارتكبها هي جريمةٌ مستحيلةٌ استحالةً مُطلقَةً واعتقادَهُ بأنَّها مُطابقةٌ للنموذجِ القانونيِّ الذي نصَّ عليه القانونُ يُعَدُّ جريمةً ظَنِّيَةً في ميزانِ القضاءِ المصريِّ؛ لأنَّ الجريمةَ المُستحيلةَ استحالةً مُطلقَةً لا عِقابَ عليها لدى القضاءِ المَذكورِ وهو ما يُشترَطُ أيضاً في الجريمةِ الظَنِّيَةِ.
*******
(المراجع):
1-شرحُ قانون العقوبات اللبناني القِسمُ العامُ للدكتور محمود نجيب حسني-المُجلَّدُ الأوَّلُ-منشورات الحلبي الحقوقية في بيروت-طبعةٌ ثالثةٌ جديدةٌ/1998/-الفقرة/334/-الصفحة/460/.
2-قانونُ العقوبات القِسمُ العامُ للدكتور محمد زكي أبو عامر-منشأةُ المعارفِ في الاسكندرية-طبعة/1993/-الفقرة/118/-الصفحة/297/.
3-النظريَّةُ العامَّةُ للقانونِ الجنائيِّ للدكتور رمسيس بهنام-مُنشأةُ المعارف في الاسكندريَّةِ-طبعةُ/1971/-الفقرتان/53 ؛ 55/-الصفحاتُ/444 ؛ 462 ؛ 465/.
4-قانونُ العقوباتِ: القِسمُ العامُّ نظريَّةُ الجريمةِ للدكتور أمين مصطفى محمد-منشوراتُ الحلبي الحقوقيَّةُ في بيروت-الطبعةُ الأولى/2010/-الصفحتان/273 ؛ 274/.
5-الرُكنُ الماديُّ للجريمةِ للدكتور معن أحمد محمد الحياري-منشوراتُ الحلبي الحقوقيَّةُ في بيروت-الطبعةُ الأولى/2010/-الصفحات/411 ؛ 412 ؛ 414/.
*******
بقلم المحامي الأستاذ تاج الدين حسن-نقابة المحامين في الجمهورية العربية السورية-فرع دمشق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق