المحاماة فن رفيع (6)
• كان هناك قضية أمام محكمة الجنايات، كان المتهم فيها قد شرع في قتل أمه، وكان عاملاً بسيطًا، تشاجر معها، واتهمها أنها تنغص حياته، وترهقه ماليًا، وتوقع بينه وبين زوجته.
وكان رئيس الدائرة يميل إلى الشدة فيما يأخذ به نواصي الناس من عقوبة، وكانت نظريته أن العقوبة مقاس الجريمة!
فلما عرف القاضي نوع القضية، نظر إلى المتهم متعجبًا، وقد تلون وجهه بالدهشة والاستنكار، قائلاً:
"فيه واحد في الدنيا يضرب أمهَ! أنتم آدميين ولا وحوش!"
وظل يبدي علامات الاستنكار، والاشمئزاز، والمحامي يترافع في أمواج هذا الاستنكار والاشمئزاز؛ رغم أن الأم قد جاءت تشهد؛ فأبدت تسامحها لولدها، وصفحها عنه
ولكن المحكمة قضت بسجنه ثلاث سنوات.
• وفي الأسبوع التالي، نُظرت قضية مشابهة أمام دائرة أخرى، وكان قاضيًا يؤمن بأن الرحمة فوق القانون، فلما جاءت الأم تشهد: سألها القاضي دون أن يبدو منها ما يوجب السؤال:
أنت سامحتيه يا ست؟
وردت: أيوه.
فقال لها القاضي: سامحتيه من قلبك؟
فقالت له: أيوه.
فنظر القاضي إلى المحامي، وإلى النيابة، وإلى الجمهور، وعبر ما يخالج نفسه، وكأنه يحدث نفسه:
"نحن لو حكمنا على الولد ده؛ نكون قد ضربنا الأم مرة أخرى، وأقسى من أول مرة، إن قلب الأم دائمًا مسامح.
ثم التفت إلى الولد، وقال له: "سنسامحك هذه المرة لسبب بسيط، وهو أن عقابك عند الله سيكون أشد، لكن عقابك عندنا سيضر أمك.. الله يهديك يا ابني".
ولم يترافع المحامي.
وقضت المحكمة بأشهر!
انظر إلى التباين في الشعور، وإلى الاختلاف في المشاعر، وإلى التفرقة في التقدير، إن القضية الواحدة اختلف فيها تقدير القاضيين، كل منهما تأثر وجدانه بمشاعر مختلفة، وكل منهما قدر بميزان نظرته للحياة، وللناس والظروف.
وهكذا تستطيع أن تدرك أن كل قاضي له وهو يجلس على كرسيه شخصية مختلفة عن شخصية زملائه.
فالقاضي إنسان بشري، والناس يختلفون ذكاء وعقلا، ويتباينون في إحساساتهم ومشاعرهم، ويتفرقون شيعًا في نظراتهم للأمور، وتقديرهم للحوادث.
والقاضي إنسان يجري عليه ما يجري على سائر الناس، ويتصف بما يتصفون به، ويعلو يهبط كما يعلون في مداركهم، وأفهامهم ويهبطون.
لذلك فهي رسالة للمحامين، أنه يجب عليه دراسة قاضيه قبل أن يترافع، ودراسته لقاضيه في أهميتها كدراسته لقضيته.
ورسالة للمتقاضين: أن الحكم في قضية أمام قاض، لا يعني أن جميع القضاة سيحكمون في نفس الواقعة بنفس الحكم.
بتصرف من كتاب: المحاماة فن رفيع، للأستاذ: محمد شوكت التوني، طبعة: 1958
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق