العنف الجنسي كوسيلة للانتقام
والتأديب المجتمعي
منقول "
لا تمر أيام إلا بظهور ضحية جديدة
للعنف الاجتماعي، وما أن تتحدث الضحية حتى تحاصرها الاتهامات. المشكلة الحقيقية هي
اعتبار الانتقام والتأديب عن طريق الجسد حقاً من حقوق المجتمع.
أثقلت جريمة الاعتداء الجنسي التي زعمت منة عبد العزيز
(مصرية تبلغ من العمر 17 عام) تعرضها لها، بظلالها على الجميع، بعد تناقل خبر اغتصابها على يد
شاب بالتواطؤ مع بعض صديقاتها.
ظهر الشاب مازن إبراهيم ليدافع عن نفسه قائلاً إنه لم يغتصبها، فهي ليست "عذراء" من الأصل، وإنه، بصحبة أصدقائه، "كشفوا عليها"، وهذا التصريح بدوره يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون.
تراوحت التعليقات بين المؤيد لحق منة، وبين المعارض لها، وجاءت المعارضة من منطلق أنها متحررة في فيديوهاتهاوملابسها.
ولكن الحكاية لم تبدأ بأن "منة" كانت تنشر
فيديوهات وصوراً لها وهي ترقص وترتدي ملابس يصفها البعض بكونها "عارية"
أو "خارجة عن المألوف" في بيئتها الاجتماعية، وإنما تعود جذور هذه
الجريمة إلى ما هو أبعد من ذلك.
تعود جذور هذه الجريمة منذ أصبحت جريمتا "التحريض
على الفسق والفجور" و"خدش الحياء" مخصصتين لمعاقبة فتيات ومراهقات
تعبرن عن أنفسهن بطرق مختلفة عبر حساباتهن الخاصة.
بناء على ذلك أصبح من حق كل إنسان أن يرى أن هؤلاء
الفتيات "يخدشن الحياء العام" أو "يحرضن على الفسق والفجور"
وفقاً لمعاييره المختلة، أن يعاقبهن بنفسه وينتهك حدودهن الشخصية والجسدية، بل
وأيضاً ينتهك أجسادهن. "فهن لم يصنها" وفقاً للمعايير التي توافق عليها
المجتمع.
بعد رفع دعاوي قضائية ضد صاحبات حسابات شخصية على تطبيق
"تيك توك" لم يكن مفاجئاً أن يستنتج بعض الرجال، وللمرة المليون،
أنه من حقهم انتهاك النساء اللاتي، بتصنيف المجتمع، يعتبرن مخالفات لمبادئ الأسرة
ومحرضات على الفسق والفجور.
لماذا يستخدم العنف الجنسي
للانتقام؟
لأنه وسيلة مذلة على العديد من المستويات.
فالمجرم لا
يعتدي فقط على جسد الضحية وينتهكه، وإنما يستخدم جريمته للتشهير بها إليكترونياً
ووصمها بوصمة عار مجتمعية، قد لا تنجح في التخلص منها أبداً.
جريمة العنف الجنسي هي أيضاً بمثابة تحذير ضمني لكل
فتاة- مراهقة أو غير مراهقة- بعدم أحقيتها في التعبير عن نفسها، فقد تصبح
"ضحية" جديدة، إذا لم يرض أحد الشباب عن سلوكها الشخصي.
ولن يتوقف الأمر عند ذلك، فالشاب الجاني يجد الكثير من المدافعين عنه، رغم عدم آدميته
وجريمته، بحجة أن الفتاة "لبسها غير لائق" و"تستاهل". هؤلاء
المدافعين هم الأخطر على الإطلاق، إذ يقدمون صك موافقة مسبقة على كل أنماط العنف
القائم على النوع الاجتماعي حاضراً ومستقبلاً.
shutterstock
اليوم لم تُسلب من منة سيادتها على جسدها وحريتها في
التعبير عن نفسها فقط، وإنما سلب منها شعورها بالأحقية في الحياة والمطالبة بأية
حقوق لنفسها. أصبح من حق كل إنسان محاسبة كل أنثى في إطار أسرته أو خارجها على
سلوكها الشخصي، حتى لا تصبح ضحية يوماً ما.
أصبح لدى كل ذَكَر سبباً جديداً لفرض سلطته الذكورية على
الإناث المقربات وغير المقربات منه، إما بدافع "الحماية المزعومة من أنفسهم
وغيرهم" أو "التهذيب" لكل من لا تتوافق مع معاييره الأخلاقية.
أصبحت الاعتداءات الجنسية والاتهامات ذات الطابع الجنسي هي
الوسيلة المثلى للانتقام والتنكيل بأي فتاة تمارس أي حق من حقوقها الشخصية دون
الإضرار بأحد.
لوم الضحية
العنف الجنسي هو أحد أهم تجليات كراهية النساء، وهو عنف
ممنهج ولا يحدث بمحض الصدفة أو بشكل خارج عن المألوف. بل هو هيكل من القمع
والتمييز، يهدف للتحكم في المرأة وسلبها حريتها وكرامتها وهي حقوق أساسية لأي
إنسان.
يأتي لوم الضحية كداعم أساسي لثقافة الاغتصاب، والتي
تسمح بتطبيع العنف ضد النساء. فكلما تكررت حوادث العنف ونجح المجرمون في الإفلات
من العقاب، سيتمكن عدد أكبر من المجرمين في انتهاك النساء، وبالتالي ستشعر كل
امرأة بخوف وتهديد دائم أنها من الممكن أن تكون الضحية القادمة. ويكون السبيل
للأمان والسلامة هو الخضوع والاستسلام للسلطة الأبوية.
لطالما
كان لوم الضحية هو درع حماية المجرمين وسلاح الذكورية والأبوية المتسلطة ضد النساء
اللاتي يتعرضن للعنف. فهُناك قائمة جاهزة من الأسئلة والاتهامات الموجهة لضحية
العنف تعكس الأدوار في لحظة، لتجعل الضحية هي المتهمة التي تحاول الدفاع عن نفسها
وتثبت تعرضها للعنف، وتبرئ نفسها من مسبباته.
ماذا
كانت ترتدي؟ لماذا نشرت صور وفيديوهات تقوم فيها بالرقص أو الغناء أو التعبير عن
نفسها؟ لماذا تنشر محتوى على الإنترنت من الأساس؟ لماذا تضحك؟ لماذا تتكلم؟ لماذا
تعيش؟ لماذا؟ لماذا؟
وكأن
وجود المرأة في حد ذاته سبب كاف لمحاولة القضاء عليها والانتقام منها. لأنها باتت
مساحة لإثبات العفة والأخلاق وسلطة الرجل على أجساد النساء. أي عفة تلك التي يتم
الدفاع عنها بتبرير الاغتصاب؟
shutterstock
هذه
العفة التي تعاقب عليها النساء ولا يتحرك لها ساكن عندما تنتهك النساء يومياً
وبجميع الصور من رجال مطمئنة تمام الطمأنينة أنها لن تحاسب، ولن تعاقب، ولن تدفع
ثمن جرائمها.
ثم نندهش إذا صرحت ضحية عنف عما تعرضت له بعد مرور سنوات
على الحادثة. ونصوغ لها اتهامات خاصة، بأنها تهاجم شخص ناجح أو مشهور لتشويهه أو
سعياً منها للشهرة! أي شهرة تلك التي تضاهي وقع وصمة الاغتصاب!
الدفاع عن المجرم، لأنه رجل!
الحرية الشخصية مجرد مصطلح، ليس لها أي وجود في أرض الواقع. لا بد لكل
حركة وهمسة أن تكون محل موافقة من المجتمع. لا نعرف معنى الحرية الشخصية لا من
قريب أو من بعيد. فلا نعرف كيف نختلف مع شخص أو نرفض أو نعترض أو ننقد رأي أو فكرة
بشكل سلمي.
أي شخص لا
يعجبني أريده عبرة لمن لا يعتبر. نحشد للتحريض ضده بأبشع وأقسى الممارسات العنيفة.
كذلك، لا نعرف معنى الاختلاف والتنوع. من الأسهل أن نحدد
قالب واحد للجميع، نسعى لأن نكون كلنا نسخاً من بعض، وأي شخص يختلف عن هذا
القالب فهو مستهدف. الفرق بين الرجال والنساء في هذا الاستهداف، هو أن النساء
مستهدفات بالعنف، ولأسباب عديدة وبشكل متقاطع، من منطلق ديني، ومجتمعي، وجنسي،
وجسدي.
الرسالة هي: جسدك ملك للجميع، ما عدا نفسك. من حق المتحرش لمسك
في الشارع، "مانتي اللي لابسة ضيق". من حق الأسرة اختيار ملابسك،
"بدل ما تفضحيهم". من حق المغتصب أن ينتهك جسدك، "مانتي اللي سلوكك
فالت". من حق الأخ الاعتداء عليكي، "مانتي اللي بتلبسي شورت في
البيت". من حق الزوج اغتصابك، "أمال هو دافع فلوس ليه؟"
لكن ليس من حقك أن تعاقبي المتحرش، ولا المغتصب ولا
المعتدي لأنه أكيد إذا تحرينا، سنجد أنك من تسببتِ بشكل أو بآخر في وقوع هذه
الجريمة عليكِ. إذاً سقط حقك، وأصبحتِ متواطئة.
تثيرنا المبادئ والأخلاق عندما يكون المجرم رجل فنلهث
للدفاع عنه، واستعطاف الضحية حتى لا يضيع مستقبله، والحشد لنشر محاسن أعماله حتى
يرى الناس أنه لا يستحق العقاب. أي مستقبل الذي تدافعون عنه؟ مستقبل مجرم هارب من
العقاب؟ نؤكد له أنه يمكنه الاستمرار في جرائمه ضد النساء بوعد من المجتمع أنه
سيدافع عنه في أي مرة ستفضحه الضحية أو تطالب بحقها.
shutterstock
ونفس الأشخاص "المتسامحة" تحرض بنفس المجهود
على التنكيل بالضحية وتشويه سمعتها حتى نصل للنتيجة المعهودة، وهي تبرئ الجاني
والقضاء على مصداقية الضحية وحقها.
إذا لم يعجبك المحتوى الذي تقدمه منة أو أي امرأة غيرها
فلماذا لا تتوقف عن متابعتها؟ الإجابة، لأنها فرصة هائلة للتأكيد على زيف المبادئ
وعلى أن المرأة تابعة، وليست سيدة نفسها، وللكل رأي ودور في تربيتها وعقابها بما
يظن أنه الأفضل لها وعبرة للباقيات.
لماذا لا نعاقب الرجال اللذين يرسلون لنا صور أعضائهم
الجنسية في "الإنبوكس"؟ لماذا لا نعاقب المحرضين بشكل علني وصريح على
العنف ضد النساء؟ لأنهم لا يهددون ثقافة الاغتصاب، بل يدعمونها. لأنه يمكننا
دائماً أن نلوم الضحية أنها لم تقوم بحظر الشخص الذي أرسل لها صورة لعضوه الذكري
بل ردت عليه بالسب، لأنها غير محترمة. ولأن المحرض على العنف هو، بتعريف المجتمع،
مدافع عن القيم والمبادئ.
في النهاية، نؤكد على
رفضنا التام لكل صور العنف ضد النساء، والتأكيد على أنه لا يوجد أي مبرر للاغتصاب،
تحت أي مسمى ولأي سبب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق