كان التمييز ضد النساء قانون وتقاليد اجتماعية متوارثة , وكان التمييز أكثر وضوحا في مصحات العلاج النفسي ولكن !!!!!!!!!!!!
نساء على حافة الجنون.. حين تخرج الرواية من رحم المرض النفسي!
م
منذ القدم وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان التمييز ضد النساء سائدًا في أوروبا؛ إذ كان يُنظر إلى المرأة باعتبارها أدنى منزلة من الرجل في كافة نواحي الحياة، وكانت الحقوق التي نراها اليوم بديهية للجميع، مثل الحق في التعليم والتملك والتصويت وحضانة الأطفال محظورة على النساء، وكان جزاء من تتجرأ على الاعتراض والثورة على هذه الأعراف والقوانين الاجتماعية الظالمة، أن ينبذها المجتمع أو تتلقى نصيبها من الضرب المبرح، أو تُحبس في إحدى غرف المنزل حتى تسحب اعتراضها وتتراجع عن ثورتها أو يأكلها الجنون!
لم يقتصر الأمر على ذلك فقط؛ فقد امتد التمييز ضد المرأة ليشمل المجال الطبي، خصوصًا مجال الطب النفسي. فعلى الرغم من أن القرن التاسع عشر قد شهد تطورًا ملحوظًا في مجال الطب النفسي، إلا أن معرفة الأطباء آنذاك عن الأمراض التي يعالجونها لم تكن مبنية على أسس علمية، بل كانت عادة ما تعتمد على الأفكار الاجتماعية الشائعة حول المرض العقلي.
فمثلًا، اعتقد الأطباء أن بعض الأمراض النفسية مثل الهستيريا، وفقدان الشهية العصبي، والوهن العصبي؛ شائعة بين النساء دون الرجال بسبب ازدياد معدل الاكتئاب ونوبات القلق بين النساء. وكانت النتيجة أن النساء اللواتي شخصهن الأطباء بهذه الأمراض قد تم عزلهن -رغمًا عنهن- في مصحات نفسية قذرة مكتظة بالمرضى ذات نوافذ عالية تحيطها قضبان حديدية مما كان يؤدي إلى تفاقم حالتهن لأنهن كن يُسجن ويتلقين معاملة بالغة السوء من الطاقم الطبي المكلف بهن.
صورة لإحدى المريضات بإحدى المصحات النفسية في القرن التاسع عشر – المصدر: dailymail
وبذلك، فإن النساء كن ضحية مجتمعاتهن التي حددت لهن أدورًا لم يرضين عنها ولم يُسمح لهن بتخطيها. فقد كان المجتمع يقف بالمرصاد لكل امرأة تسعى لكسر قيودها والبحث عن حريتها ويضعها في مصاف المجانين لأسبابلا يعتبرها الطب الحديث مرضًا نفسيًا أو بناء على توصية والدها أو أحد أقاربها الذكور. وبالتالي، كانت ثورة النساء على تلك التقاليد والأعراف الاجتماعية المجحفة من شأنها أن تجعلهن فريسة إلى ما كن يخشين طوال حياتهن.
وعلى الرغم من كل تلك العقبات، فقد استطاعت بعض الكاتبات كسر قيودهن وعبرن بصدق عن تجربتهن الشخصية مع المرض النفسي، عن إحباطهن، ومعاناتهن، ووحدتهن، وخوفهن وهن يكتبن تجاربهن التي قدمت لنا صورة شديدة الصدق عن المرض النفسي من وجهة نظر امرأة مرت بهذه التجربة بالفعل.
وتستعرض السطور التالية روايتان لكاتبتان عانتا بالفعل من مرض نفسي وقررن تحدي الجميع والكتابة بلا مواراة أو خجل عما كن يشعرن به كنساء يعشن في مجتمعات دفعتهن قيوده إلى الجنون دفعًا وجعلتهن على شفا الانهيار.
ورق الحائط الأصفر.. شارلوت بيرجمان وحيدة في غرفة مغلقة
في عام 1892، نشرت الأديبة والشاعرة الأمريكية شارلوت بيركنز جيلمان قصة قصيرة بعنوان «ورق الحائط الأصفر» لتحكي من خلالها عن معاناتها باعتبارها امرأة مرت بتجربة اكتئاب ما بعد الولادة، وكيف أرجع زوجها الطبيب حالتها تلك إلى ما أسماه النشاط المفرط لخيالها؛ فكانت النتيجة أنه قد قرر سجنها في إحدى غرف قصر قديم استأجره في منطقة ريفية منعزلة، ومنعها منعًا باتًا من ممارسة الكتابة، وحظر عليها الالتقاء بأي شخص حتى ولو كان أحد أفراد عائلتها.
ولأن النساء كُن دائمًا في الظل وظللن لفترة طويلة يلعبن دورًا صامتًا في مجتمعاتهن؛ فقد قررت شارلوت ألا يكون لبطلتها اسم لتظل مجهولة الهوية؛ شأنها شأن كل النساء اللواتي عانين من عدم الاستقلالية وتألمن في صمت دون أن يسمع بهن أحد.
للوهلة الأولى تبدو قصة شارلوت بيرجمان حكاية درامية تأخذ القارئ في رحلة مروعة تخوضها امرأة تبحث في يأس عن هويتها الحقيقية، بينما لو أمعن القارئ النظر فيها لوجدها قصة رعب من الدرجة الأولى؛ فما هو الشيء الذي يمكن أن يكون أكثر رعبًا من أن يفقد المرء عقله بسبب تفاقم شعوره بالاضطهاد والخذلان اللذين يواجههما دومًا، بسبب تمزقه بين رغبته في تحقيق ذاته وبين الدور الذي يفرضه المجتمع عليه؟
الإعلان الدعائي لفيلم «ورق الحائط الأصفر»
في «ورق الحائط الأصفر» لم تكن معاناة البطلة تتمثل فقط في الاكتئاب الذي ألم بها بعد ولادة طفلتها الأولى، بل إن الجزء الأكبر من معاناتها كان يتمثل في تجاهل كل من حولها لمشكلتها وتقليلهم من حجم معاناتها وعدم أخذها على محمل الجد؛ فكانت النتيجة أن حالتها النفسية تدهورت حتى جنت تمامًا ولم تستطع أبدًا أن تعود الشخص الذي كانت عليه قبل أن تُحبس في تلك الغرفة.
وبذلك؛ فإننا ندرك أن المشكلة الأساسية لراوية القصة -التي لا نعرف لها اسما- كانت تكمن في قمع زوجها لها وليس في حالتها النفسية وحدها؛ فهي حين حاولت الكتابة منعها زوجها لأنه لم يستطع إدراك مدى أهمية الكتابة بالنسبة إليها؛ فكان حرمانها مما تحب ومحاولتها الكتابة في خفية عن عين زوجها أشد وطأة عليها من المرض نفسه.
ولم يكتف زوج الراوية بمنعها من الكتابة فقط، بل قد امتد تحكمه فيها إلى كافة جوانب حياتها، بدءًا من نظامها الغذائي ومرورًا بروتينها اليومي وساعات نومها؛ فكانت النتيجة أن يتحول الاكتئاب الطفيف الذي ألم بها إلى انهيار عصبي أصابها بحالة من الخرف، جعلتها تتخيل أن القصر الذي تسكن به مسكون وأن هناك عين امرأة تراقبها في خفية من وراء ورق الحائط الأصفر الذي يزين جدران غرفتها.
وقد امتد هوس الراوية بورق الحائط الأصفر إلى اعتقادها بأن المرأة التي تقف خلفه سجينة تريد أن تتحرر مثلها تمامًا؛ فتجعل من تمزيقه شغلها الشاغل وتتجنب لقاء زوجها أو حتى طفلها حتى تحرر تلك المرأة.
الكاتبة الأمريكية شارلوت بيركنز جيلمان
إلى جانب أهمية قصة «ورق الحائط الأصفر» باعتبارها من أوائل الأعمال الأدبية التي تتبنى موقفًا نسويًا يدين النظام الأبوي ويحمل الرجال –متمثلين في زوج البطلة– المسؤولية المباشرة عن تدهور حالة الراوية –وربما حالة جميع النساء في ذلك الوقت– العقلية ووقوفهن على شفا الجنون، فإن هذه القصة تعد مرجعًا في غاية الأهمية، حول شكل العلاج النفسي في تلك الفترة.
وهي أيضًا تمثل صرخة احتجاج ضد علاج الوهن العصبي الذي استحدثه الطبيب الأمريكي سيلاس وير ميتشل، والذي يعرف بالمعالجة بالراحة لأنه كان يضع المرأة في سجن حقيقي ويمنع عنها أي تواصل مع البشر ويحظر عليها ممارسة أي نشاط. وقد وصفت شارلوت أثر هذا العلاج عليها قائلة: «كنت أشعر أنني أمشي نحو الجنون بخطوات ثابتة كل يوم حتى صرت أراه يلوح في الأفق».
الناقوس الزجاجي.. رحلة سيلفيا بلاث برفقة الجنون
بعد حوالي 70 عامًا من تاريخ نشر شارلوت بيرجمان لقصتها، نشرت الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث روايتها الوحيدة بعنوان «الناقوس الزجاجي»، في بريطانيا بدلًا من أمريكا ووقعتها باسم مستعار، وذلك لأن حياة إستر جرينوود –بطلة الرواية– لم تكن لتختلف كثيرًا عن حياة سيلفيا التي فضلت ألا تنشر روايتها باسمها حتى تتجنب النقد اللاذع الذي توقعت أن تلقاه روايتها تلك. ولم تُوقع هذه الرواية بالاسم الحقيقي لمؤلفتها إلا بعد انتحارها بثمان سنوات.
تتناول «الناقوس الزجاجي» رحلة انزلاق إستر جرينوود نحو الجنون أثناء بحثها عن هويتها ومحاولتها بأن تحقق ذاتها، وكيف هزمتها قيود المجتمع بالنهاية وحولت أحلامها العريضة إلى كوابيس ثقيلة لازمتها طوال حياتها وأجبرتها على دخول المصحات النفسية ومحاولة الانتحار أكثر من مرة.
كحال بطلة شارلوت بيرجمان، كانت معاناة إستر تتمثل في تجاهل الجميع لها وتقليلهم من شأنها والسخرية من أحلامها التي تتعارض مع الدور الذي حدده المجتمع لها سلفًا بأن تصبح زوجة وأمًا. وتكون النتيجة أن تقع إستر فريسة لاضطرابات داخلية شديدة الوطأة تذهب بها في نهاية المطاف إلى حالة اكتئاب حاد تتلقى بسببها العلاج بالصدمات الكهربائية في المصحات النفسية، وهناك تجد نفسها تتحول -رغمًا عنها- إلى امرأة هادئة سهلة الانقياد وتفقد رغبتها في الكتابة، وهذا هو ما كانت تخشاه طوال حياتها.
الكاتبة الأمريكية سيلفيا بلاث – المصدر: wsj
على مر السنوات، ظهرت العديد من المراجعات النقدية لهذه الرواية التي تعتبر من أهم الأعمال النسوية على الإطلاق، وعلى الرغم من أن النقاد اختلفوا حول شخصية سيلفيا نفسها وحول كونها ضحية ظروفها النفسية التي أعقبت وفاة والدها ولازمتها طوال حياتها حقًا، أم مجرد امرأة عشقت دور الضحية وتلذذت بالألم والغضب اللذين أحاطاها منذ الصغر ولم تود الانعتاق من أسرهم، إلا أن أغلب المراجعات النقدية قد اتفقت على أن المجتمع الذكوري الذي عاشت فيه إستر جرينوود، وكذلك سيلفيا بلاث، كان له دور بارز في حالة الانهيار التام التي وصلت إليها الكاتبة وبطلتها على حد سواء.
وتشير الناقدة ديان بوندز إلى أن القيود الاجتماعية والثقافية كانت ولا زالت لها بالغ الأثر على تدهور الحالة النفسية للعديد من النساء، وتضيف أن إستر حين قررت فك هذه القيود فإنها قد فقدت نفسها وهويتها الحقيقية إلى الأبد ولم تستطع أبدًا العودة إلى ما كانت عليه.
وعلى الرغم من التطور العلمي الهائل الذي شهده القرن العشرين، إلا أن المجتمع ونظرته للنساء لم تختلف كثيرًا عن القرن التاسع عشر، إذ ظلت النساء في هذين القرنين يعانين من سجنهن بداخل الأدوار الاجتماعية التي حُددت لهن سلفًا ولم يخترنها. فقد عانين من قمعهن ومنعهن من الكتابة عما يشعرن به، ومن إسكات صوتهن وتكلم الرجال بلسانهن.
ولذلك، فإننا نجد أن الحالة النفسية والعقلية لبطلتي شارلوت بيرجمان وسيلفيا بلاث قد تدهورت ولم تعد أبدًا إلى ما كانت عليه بعد أن مُنعن من الكتابة واتُهمن بالجنون بسبب ما أسماه المجتمع النشاط المفرط للخيال. أيضًا، تُعد «الناقوس الزجاجي» أحد المراجع المهمة التي تُلقي الضوء على العلاج النفسي في القرن العشرين، وتشير إلى أنه لم يتغير في جوهره كثيرًا عن القرن التاسع عشر.
فعلى الرغم من تطور الطب والوسائل العلاجية في القرن المنصرم، إلا أن النوافذ العالية ذات القضبان الحديدية والأبواب الموصدة على المريضات في القرن التاسع عشر قد استبدلت بالعلاج بالصدمات الكهربائية الذي كان يصيب المريضات بحالة من الخضوع وانعدام تركيز وهذيان جعلت من القضبان والأبواب الموصدة أشياء غير ذات أهمية لأنهن حتى لو أردن الهروب فلن تسمح حالتهن الجسدية بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق